المثل الأعلى وأثره في النهوض بالأمة
يحار المرء أحيانا كثيرة في تقديم قراءة أقرب إلى الحقيقة لهذا الواقع العربي المتردي على جميع الأصعدة، وإن كانت هذه القراءات لا تخرج كلها عن رصد مجالات ومظاهر هذا التخلف في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والتعليم وغير ذلك، كما أن تقديم تفاسير وعلل هذا الواقع يختلف من حيث زوايا نظر كل محلل وتوجهاته الفكرية والسياسية، إلا أنه مع هذا الاختلاف يبقى تقاطع كل التحاليل والقراءات متمثلا في سبب أساسي وهو غياب المثل الأعلى لدى غالب الحركات التحريرية التي تسعى إلى الانطلاق بالأمة نحو عالم الشهادة على الناس. فلماذا المثل الأعلى؟ وما دوره في إعادة صناعة مجد الأمة، وكيف السبيل إلى تحقيق هذا المثل، وما الشروط التي يفترض توافرها في كل مثل أعلى نعتمده ونسعى إلى تجسيده؟
الحاجة إلى مثل أعلى
إن الحديث عن حاجتنا إلى مثل أعلى حقيقي ليس مرده إلى تقاليد ثابتة في البنية الفكرية للأمة العربية، ولا إلى رغبة في إدراك مقدار الفرق بين ذلك الجيل الذي صنع تاريخ أمته وحضارتها وبين جيل العصر الحاضر، فذلك واضح للعيان، وإنما الحديث عن حاجة الأمة من جديد إلى مثل أعلى مرده إلى أن الغالبية من سكان المنطقة العربية، وخاصة من شبابها ولَّوا وجوههم في اتخاذ مثلهم الأعلى نحو أبطال الأفلام الإجرامية والعاطفية، ومضوا يقلدونهم ويجرون وراءهم، مسرعين أيما سرعة لتحصيل أخلاقهم وقيمهم ومثلهم للتأسي بها، وللاقتداء بها.
إن مبرر الحديث عن حاجة الأمة إلى مثل أعلى من جديد هو حال هذا الجيل الذي تاه وشرد، لأن الحياة التي نحياها والإيقاع السريع الذي تتميز به لا يربيان فينا هذا المثل الأعلى، فالكل منشغل بنفسه، يجري من وراء المتع المادية للحياة الدنيا، وهو الأمر الذي دفع بالعديد من المفكرين والباحثين إلى الحديث عما يسمى بالأزمة الروحية للأمة العربية، ومن خلالها الحديث عن أزمة التدين في العالم العربي
وليس غريبا أن تكون النفس البشرية مجبولة على اتخاذ مثل أعلى في الحياة، فذلك مما فطر الله تعالى عليه عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وأجْمِلْ بمن التمس قول الله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا" (سورة الأحزاب الآية 21)، فكان مثله الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والخلاصة أن حاجة المجتمع الإسلامي إلى مثل أعلى مردها إلى إيمان علماء التربية، بأن علاج الأزمة الشاملة التي نمر بها يكمن في تحويل الإنسان من فريسة لأحداث تفاعل الدول والأمم إلى موجِّه لحركة التاريخ عن طريق ربط الإنسان بالقيم الأخلاقية والمثل العليا ذات المصدر الرباني.
إن الأساس الذي عليه تبنى العملية التغييرية ككل هو المحتوى الداخلي للفرد والجماعة، وهذا المحتوى لا يمكن أن يتقوى ويتصلب إلا إذا كان المجتمع كله صلبا قويا لقوة وصلابة المثل الأعلى المعتمد، ومن ثمَّ فإن من مقومات هذا المثل الحق أن يرفع هممنا عالية وأن يشحذ فاعليتنا وأن يوجهنا الوجهة السليمة نحو تخليص الأمة من كل الشوائب.
وعادة ما يتخذ الناس بشكل عام مثلهم الأعلى إما مستوحى من الواقع المعاش وإما من الأفكار والنظريات والتصورات، ومن المبادئ الكبرى
نماذج من المثل الأعلى في بلادنا العربية
يمكن القول إن الناس في اتخاذ مثلهم الأعلى قسمان: قسم يتخذه من خلال الواقع نفسه ومن خلال ما تعيشه الجماعة البشرية من مشاكل وأزمات، وبالتالي يكون هذا المثل على قدر عزائم القوم وهممهم، وقسم يتخذون مثلهم الأعلى من المبادئ والتصورات الكبرى لصناعة التاريخ ومجد الأمة ولكل من هذين الصنفين خصائص ومقومات.
خصائص المثل الأعلى المستمد من الواقع:
في هذه الحالة بالذات يكون المثل الأعلى عبارة عن تكرار لتجارب قائمة موجودة، وهي بطبيعة الحال تلك التجارب التي لم تحقق للأمة مبتغاها، وتفيد المعطيات المتوفرة في مجال علم النفس والاجتماع أن الذين يتخذون مثلهم الأعلى من الواقع المريض الذي يعيشون فيه هم الذين لا يتوفرون على إرادة الإقلاع، المستسلمون لفعل التاريخ وتكالب الأمم وتدافعها، ناسين أو متناسين أن الماء الراكد لا يصنع أبدا سباحا ماهرا. لكن لماذا نجد فئة من الناس تفضل الركون إلى الخلف والتفرج على ما يجري، بينما فئة أخرى لا تحب لنفسها إلا العمل والعمل المتواصل والاقتداء بالسلف الصالح الذي صنع مجد الأمة؟!.
أعتقد أن مرد ذلك إلى سبب نفسي بالدرجة الأولى، بما يعني ذلك من خوف من التغيير وهيبة منه، وخوف من أن يكون المستقبل أسوأ من الحاضر، وهذه الفئة من الناس هي التي تطبعت فعلا مع الخمول والجمود، وأصبحت العادةُ وما عليه حال الأمة معيارا وأصلا، وكأن أمتنا محكوم عليها بالتبعية للآخر، فأين هذه الفئة من قول الله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس"؟ وهل يمكن لأمة الشهادة أن تتحقق ميدانا وواقعا على يد مثل من يقول: هذا ما وجدنا عليه آباءنا؟.
لقد عرض القرآن الكريم لحالات كثيرة من الذين تصدوا لأنبيائهم لما جاؤوهم بمثل عليا حقيقية تنتشلهم مما كانوا فيه وترتفع بهم من الواقع الطيني الأرضي إلى واقع آخر تتحقق فيه إنسانية الإنسان ويكون الدين فيه حكما
]لقد جاء القرآن الكريم بآيات توضح للمعتبرين بسنن التغيير وقوانينه، وبالظاهرة الاجتماعية في شكلها العام، فقال الله تعالى على لسان المشدودين إلى الأدنى بفعل جاذبية الأرض: "قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون".. وقالوا أيضا: "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا". إنها آيات تبين حقيقة المثل الأعلى الطيني المنخفض المحكوم بحكم العادة والموروث وثمة سبب اجتماعي آخر يمكن أن يكون مبررًا لاتخاذ فئة من الناس مثلا أعلى منخفضا، ولنا في التاريخ نماذج من ذلك، فهذا فرعون الطاغية كان يرى في كل تغيير وفي كل محاولة لتجاوز الواقع المعاش آنذاك محاولة لتجاوزه شخصيا وتجاوز النظام العام الذي وضعه على مقاسه بما يضمن له السيطرة والتحكم في رقاب العباد، ومن ثم كانت إرادة الفراعنة، كما هو متأصل في كل الدكتاتوريين على مر التاريخ بشكل عام، أن يغمض الناس كلهم أعينهم عن الواقع الذي كانوا يعيشونه وقتئذ، وفي سياق ذلك عمل فرعون، ظلما وطغيانا، على تحويل الواقع الذي جمعه مع الناس إلى مطلق ليس ثمة أحسن منه مهما حاول المحاولون، فقال تعالى حاكيا عنه: "وقال فرعون ياأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري" وقال أيضا: "قال فرعون ما أُريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد". وكم يحفل مجتمعنا العربي بمثل هذه الأساليب بطرق أكثر خفاء لا يكاد يفقهها إلا ذوو البصائر الثاقبة