في العتمة! ::
الكاتب: أ. لميس طه
مرارة شديدة أحسها تملأ حلقي كلما استغرقت في التأمل... الليلة مقمرة، ضياء فضي يزيد الظلال في حديقة منزلي توحشاً، ويجعل عبث هبات ثقيلة لنسمات خريفية بأوراق الشجر الساقطة في الممرات والساحات حول منزلي مخيفاً.. كان الخريف دوماً ملهماً، فلم أجده هذه السنة مؤلماً؟!. كل الحوادث ناعقة بمزيد من الخراب، وكل الأحلام والآمال باتت عبئاً يعظّم الشعور بالفشل واللاجدوى.
قبل بضع سنين، كانت لي نفس تواقة متحفزة، تنشط فيها الرغبات كرياح الحصاد الغربية في حقول القمح نهاية الربيع، تأتلف حولها صورة القادم من الأيام واعدة كخط الأفق البعيد؛ عيال خرجت من رحمي تقوى وتنمو وتكبر، أراني وأباهم قوّامين على الرعاية والتأديب كما قام أهلونا برعايتنا وتأديبنا- فُتحت أبواب كثيرة أمامهم وأوصدت كل الأبواب أمامنا، وبهتت الصور، وخَفَت صوت العيال، وقهرت أيام النحس التي زحفت نحونا أباهم.
كنت تلك الغرة الغضة، التي تحمل بكفيها الصغيرتين على كتفها الطري أطلس وكرته الأرضية، تتفرس بعينين متسعتين كل الوجوه التي ظنتها خالدة، الوجوه التي غابت ولن تعود!.
لم أشعر يوماً باللاجدوى شعوري بها هذه الأيام، إنه الوقت الضائع. هذه الجنازة الثالثة في بحر هذا العام، لم يبق أحد! اكتظت الأرض فلم تجد لهم متسعاً ففتحت بطنها وابتلعتهم.. ثلاثتهم* ماتوا على أسِرّة غريبة الكل يكرهها، مرضى وفقراء سعادة! بقينا نحن، نعزّي بعضنا رغم يقيننا بأن ضعف ذاكرتنا يغني عن العزاء، ونستنزل بدعواتنا الرحمة لأرواحهم، وكأن دعواتنا مستجابة! وقحون نحن، لا نستحي لذلك نفعل ما نشاء؛ غذّينا جثثنا بالحرام وألقينا ضمائرنا في غياهب الجبّ، ثم رفعنا أكفنا نطلب العطاء، وكأن طلباتنا مجابة!
لم يبق أحد! بقي قلة** تفترسهم الخيبة كل يوم، مشردون لا يغادرهم قهر اللجوء مهما استقروا، تعاندهم الدنيا وتعاكسهم راحة اليأس، معلّقون في الهواء، يرون الصورة كاملة ويعرفون تفاصيلها البشعة وألوانها الناشزة.. لكن من هناك، من بعيد، ليس لهم على الأرض موطئ قدم، ولا يعترف بهم من عليها... ظلوا مبعدين أو بعيدين، لا أدري، فرأسي أصغر من أن يعرف.
سأفتقدكم، والفقد شعور فظيع؛ فلا خسارة أفدح من خسارة الإنسان لإنسان... يالله، كم من الرؤوس الممتلئة بالفطنة والقلوب الفياضة بالحكمة طوت الأرض، كم من الفطنة والحكمة حرمنا حين أخذتهم في جوفها؟!.
برودة، في الجو برودة تطرأ ليلاً رغم لهيب النهار، برودة جافة لا تبشر خيراً!.